الرئيسية / الرئيسية / صورةٌ من الحوارِ الأخلاقي في ساحةِ الآخرة
untitled

صورةٌ من الحوارِ الأخلاقي في ساحةِ الآخرة

إن الأخلاق لا تقلّ أهمية عن بحث التوحيد والعبودية, ولذا اعتنى القرآن الكريم بهذا المجال عناية فائقة حتّى غدا هذا الكتاب الكريم دستوراً للأخلاق وأصلاً لها. كما تظهر أهمية الأخلاق البالغة في تأثيرها على سلوك الإنسان وما يصدر منه, فأفعال الإنسان موصولة دائماً بما في نفسه صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب، ومعنى ذلك أن صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه، لأن الفرع مرتبط بأصله إذا صلح الأصل صلح الفرع وإذا فسد الأصل فسد الفرع.[1]

والحديث عن الأخلاق وآثارها المختلفة كان حاضراً في ساحة الآخرة بين الأطراف المتحاورة حيث جرى الحوار بصور وأشكال شتّى وعن صفات كثيرة كانت إما سبباً لدخول الجنة أو سبباً لدخول النار, ولذا علينا أن نتنبه لهذه المسألة، وأن نتعرف على أهم تلك الصفات ونتخلق بما هو حسنٍ منها لنظفر بالجنة ونتجنب السيء منها حتى لا تكون سبباً لخسراننا… ولقد دار الحوار حول صفات عديدة ولكن أريد أن أسلط الضوء على (الحوار عن صفتي التبعية والمشاركة غير المنطقية) وذلك لبروزها ولأهميتها.

فقد تناولت حوارات الآخرة خلقاً مهماً وخطيراً جداً له انعكاسات سلبية على الفرد والمجتمع في الحياة الدنيوية, أما في الآخرة فهو أحد الأسباب الأربعة التي كانت السبب والعلة لدخول المجرمين في سقر, إذ كان السبب الأول والثاني عباديين, وهما الصلاة والزكاة, والأخير هو إنكار المعاد أمّا السبب الثالث فهو الخوض مع الخائضين حيث يقول تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[2] ومعنى {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ} أي: نخالط أهل الباطل في باطلهم.

قال قتادة في تفسير ذلك: كلما غوى غاو غوينا معه. وقال السدّي: كنا نكذّب مع المكذّبين. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد”ص” وهو قولهم: كاذب، مجنون، ساحر، شاعر.[3]

وقال العلّامة محمد جواد مغنية&:{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ}: نستهين بكل شيء إلا باللهو واللعب، وندخل كل مدخل إلا مداخل الحق والخير.[4]

وقال صاحب تفسير “من هدى القرآن” في معرض بيانه لهذه الآية: الاستقلال من أهمّ أهداف الإنسان في الحياة، باعتباره محتوى التوحيد، وجوهر العبودية للّه، ولباب حرية الإنسان.. من هنا كان الخوض مع الخائضين والاسترسال مع التيّار الغالب أنّى اتجه كان ذلك جرماً عظيماً يرتكبه الإنسان في حقّ نفسه، وهو يعتبر كذلك من مصاديق الشرك باللّه، الذي يستوجب عند اللّه أشدّ العذاب، لأنّه عامل رئيسي من عوامل خطأ الإنسان وانحرافه وضلاله. وقد جاءت رسالات اللّه تهدي الإنسان إلى ذاته، ومعرفة كرامته عند اللّه، وآفاق عالمه الكبير، بينما الشيطان وأولياؤه يريدون تضليل الإنسان عن نفسه، وتجهيله بقيمتها وكرامتها ودورها المرسوم في انتخاب الخير ومحاربة الشر.[5]

فإذا لم تكن للإنسان ثوابت ومبادئ فسوف ينجرف مع التيار من دون أن يفكر في النتيجة والخاتمة، يلاحظ كيف تتغير الأوضاع فيتغير معها وإذا كان هناك حديث للناس حول فرد معين أو فكرةٍ ما فإنه يتبنّى أفكار ومواقف تلك الجماعة دون أن يلاحظ مدى انسجام هذا الادّعاء مع الواقع، فالمشكلة لديه ليس درك حقيقة الأمر وإنما هي كيف ينظر الناس إلى ذلك الشخص وتلك الفكرة، وهذا الذي يجعله يحكم بالباطل من دون حجّة، وينكر الحق من دون أساس، ويظلم من لا يستحق الظلم, فتحركه وخطواته على ضوء إملاء الآخرين وليس وفق المبدأ والدليل، لذا سوف يفقد رضوان الرب تعالى لأن الله تعالى يرتضي صاحب الحجة والدليل والاختيار.

وقد جاء موافقاً لهذه الآية ما ورد عن الإمام علي”ع” في نهج البلاغة عند وصفه لحال الناس حيث قال: “الناس ثلاث، عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل (ناعق)، يميلون مع كل ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيق”[6] , فالهمج الرعاع هم المقصودون بالآية المباركة.

والملاحظ أنهم كثيرون, لذا جاء الحديث عنهم بصيغة الجمع على عكس الصنفين الآخرين, العالم والمتعلم, فقد جاءوا بصيغة المفرد للدلالة على قلتهم، كما إنّ الإمام”ع” قد وضعهم في قبال العالم والمتعلم مما ينبّئ بكون أحد أسباب هذا الخلق هو الجهل وعدم المعرفة، وهذا الأمر ملفت للنظر والاهتمام…

بقلم إسراء عبد الجبار البنا_ العراق

[1]. منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع، محمد السيد يوسف، ص194.

[2]. المدثّر ،45.

[3]. فتح القدير , محمد الشوكاني، ج5، ص400.

[4]. تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج7،ص466 .

[5]. من هدى القرآن، محمد تقي المدرسي، ج17،ص112.

[6]. نهج البلاغة الشريف الرضي,(الكلمات القصار، 147)، ص201.

شاهد أيضاً

5228-460x330

البوارق العرفانية 6

البارقة السادسة هل نستطيع أن نميت أنفسنا؟ نعم وألف نعم, ولأهل المعرفة تقسيمات لطيفة في …