الرئيسية / الرئيسية / نبذةٌ عن التبليغِ في القرآنِ الكريم
untitled

نبذةٌ عن التبليغِ في القرآنِ الكريم

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[1] ..

إن كل حركة اجتماعية, ثقافية أو سياسية, تحتاج إلى مقومات وركائز للسير الصحيح وللوصول إلى الغايات والأهداف التي ترجوها, وكلما كانت المقومات والركائز جيدة وحصينة كلما أعطت نتائج جيدة ووصلت إلى الهدف بصورة أسرع وأجود.

ومن أهمّ هذه الركائز والمقومات هي التبليغ ونشر الفكر والثقافة المرجوة بين أفراد الأمة, حيث يمثل ذلك جسراٌ للعبور نحو ساحل الحرية والسعادة.. فما معنى التبليغ يا ترى؟

كلمة التبيلغ أصلها من البلوغ والبلاغ, وهو الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى, مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة, وربما يقال:

  • المشارفة عليه وإن لم ينته إليه كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }[2]
  • أو الانتهاء, كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}[3]
  • ويقال بلغ تبليغاً, أوصل إيصالاً, أي الوصول إلى الشيء المطلوب, قال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ}[4] وقوله {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي}[5] ..أجل.. ومنها كان التبليغ هو الركن الأساس الذي سلكه الأنبياء والمرسلين لتبليغ رسالات الباري عز وجل إلى عباده, وإنه الحجر العماد في تطور الحضارات, وإنه لمطية المثقفين السالكين درب الخير والمحبين الراجين الصلاح والفلاح للآخرين ممن يفقدون الكثير من التعاليم والمعارف والمبادئ.. الذين يجدون في أنفسهم المسؤولية لنشر الفكر السليم وبيانه وتوضيحه حتى يصل الجميع إلى الكمال المعهود من رب العباد..  وبقليل من الإمعان في الموضوع, نرى أن هناك أربعة جهات في مسألة التبليغ هي:
  • وبلّغ عنه الرسالة للقوم بمعنى أوصلها إليهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[6] بمعنى أن التبليغ مشروط بالإيصال للناس على أحسن وجه ولذا قال رسول الله| عند إيصاله المهمة الموكلة عليه في هذه الآية >اللهم اشهد أني بلغت<.
  1. المبادئ والمعارف والأحكام والقوانين والأمور العلمية التي يجب على البشر تعلمها.
  2. الأفراد الفاقدين لهذه الأحكام والنظم سواء بصورة جزئية أو كلية.
  3. الحامل لهذه المبادئ والأحكام وهو الطرف الأساس والمحور الذي يتوجه إليه الفاقدون.
  4. الوسائل المتبعة لغرض مساعدة الموصل على إيصاله الرسالة.نعم.. هذه هي الأمانة العظمى في أعناق الحاملين للعلم والمفكرين في أمور الناس لأنهم يحملون مفتاح السير والسلوك الصحيح والمبادئ الحقة والمصادر المعتمد عليها, ولذا وجب عليهم تحمل هذه المسؤولية ونشرها وإيصالها بالشكل الصحيح وبالأسلوب المناسب إلى الطرف المقابل.إذن على أصحاب الرسالة, ومبلغي الفكر وحملة العلم والثقافة والرسالة الحضارية أن يحسبوا حساباً لهذا الجهة من التحدّي والطغيان والظلم والمنافع الشخصية أو من الناس السذّج والجهلة الملتفّين حول آرائهم الشخصية دون فكر أو دليل ولا يملكون أي جدّ أو حافز لنيل المعرفة الحقة.صفات المبلغين في القرآن الكريم
  5. بما أن القرآن كتاب هداية ورشاد وذا رسالة فكرية, لذا نراه قد اهتم بمسألة التبليغ المتمثلة بالصالحين من الأنبياء والمرسلين”ع”, وذكر لنا الصفات التي كان يتحلى بها المبلغون من أصحاب الرسالات والتي تكون مدرسة كاملة لكل مبلغ يحمل مسؤولية الهداية والرشاد للآخرين, وها نحن نذكر بعض الصفات التي يجب أن تتوفر في المبلغ:
  6. ولا يظن أحد بأن هذه المسؤولية سهلة للغاية, وإن هذا الطريق يسير العبور, بل قد أثبت التاريخ والتجربة خلاف ذلك, فدائماّ كان طريق الحق مليئاً بالصعاب, حفيّ بالعواقب, ولذا يجب على المبلغ أن يتحمل الأذى والمصاعب التي تلحق به من قبل الجهلة والظلمة والانتفاعيين والذين لا يحلو لهم نشر هذه المعارف والمبادئ والأخلاق والأعمال الصالحة لأنها تتعارض مع مصالحهم الاستبدادية التي يريدون أن يمرروها على حساب ضمائر الأمة بما فيها من فقراء ومساكين وتحطيم كل منهج وفكر يؤدي إلى توعيتهم وبناء حضارتهم وثقافتهم..
  7. وكما ذكرنا قبل قليل إن الحامل لهذه المبادئ والمتحمل لمسؤولية الهداية والتبليغ لهو أهم عنصر في المجموعة فهو المسؤول عن الأمة وأجيالها وهو الذي يرسم التاريخ بخطاه ويثبت معالمه بجهوده, ولذا فإن الأجيال أمانة برقبة العلماء والمثقفين.. وليس هذا بالأمر الجديد بل إن التاريخ ينقل لنا مدى المشاق والصعاب التي تحمّلها رجال الدين والعلم لأنهم هم الذين يرسمون التاريخ بمواقفهم, فيسجلون وقفة شرف وعزة وعلم, أو يسجلون وقفة عار وشنار تغير مسير أمة كاملة وجيل بأجمعه كما هو موقف شريح القاضي وشبث بن ربعي مع الإمام الحسين”ع”.

1ـ العلم.. وإنه لمن الصفات المهمة لصاحب الرسالة حيث إنه بسلاح العلم يمكنه أن يدخل في أوساط المجتمع, وبوسيلة العلم يمكنه أن يوصل رسالته وفكره, ومن خلال العلم والحكمة يستطيع أن يغير في الآخرين ولذا نراه تعالى يؤكد على العلم بصورة عامة حيث يقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[7] ويذكر العلم بما أنه خصلة بارزة كان يتحلى بها أصحاب الرسالات الإلهية حيث يقول سبحانه: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[8] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[9] {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ }[10] هذه الآيات وغيرها تشير إلى الأنبياء الذين زودوا بالعلم الرباني اللدني لأجل أن يؤدوا رسالتهم بأحسن صورة ممكنة.

إذن لابد للمبلغ أن يحمل العلم والمعرفة الدينية والاجتماعية والسياسية بل ويملك المعرفة والاطلاع الواسع في جميع شؤون المجتمع.. ولذا يقول الأستاذ الشهيد المطهري”ره”: إن من يقصر مطالعاته على بضع كتب كالفقه والأدب والفلسفة أو غيرها ويعيش منزوياً في إحدى المدارس لا يستطيع أن يفهم ما يجري في المجتمع وما يجب عمله فيه..

 

2ـ الإخلاص.. وذلك لإن المبلغ الرسالي ناطق باسم الدين{ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[11]والدين يجب أن يصل خالصاً للناس, لذا ينبغي على المبلغ أن يكون مخلصاً وهذا ما كان يرتسم في شخصية الأنبياء والأولياء وأصحاب الرسالة {إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[12] .. وذلك حتى يتطابق القلب واللسان فيتحقق الغرض من التبليغ ألا وهو هداية الناس وإرشادهم, ولذا يشير أمير المؤمنين”ع” إلى ذلك في حديث له: >إذا طابق الكلام نية المتكلم قبلَه السامع وإذا خالف نيته لم يحسن موقعه من قلبه<[13] . ويتمثل الإخلاص في الدين والرسالة والعمل متى ما لم يتعلق قلب الإنسان بغير الله تعالى فيتخذه معبوداً من حيث يشعر أو لا يشعر ولعل ذلك صنماً أو ندّاً أو غاية دنيوية أخرى.

3ـ الصدق.. وهو من السجايا الحميدة التي أوصى بها الباري تعالى وخاصة لمن يحمل رسالته ويبلغ أحكامه ولذا كان أنبياؤنا العظام معروفين بالصدق والأمانة وإيفاء الوعد وقد حفلت الأيات الكريمة والتاريخ بذلك ومنها عُرف رسولنا الكريم بالصادق الأمين.. وقد دعا الله سبحانه أن نكون من المتبعين السائرين على درب أوليائه لما يحملوه من صدق وإخلاص, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[14] . وليس الصدق في الأقوال فقط. بل يجب أن يتجسد الصدق في الأفعال والسلوك حتى يتطابق ما يقوله المبلغ مع ما يفعله وحتى لا يكون من مصاديق الآية الكريمة: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}[15] أو {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}[16] وكما قال إمامنا الصادق”ع”: >كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم<[17]، وقوله”ع”: >كونوا دعاةَ الناسِ بأعمالكم<[18] وقوله: >رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً, كانوا دعاةً إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم<[19]، لأن المبلغ إنما ينشر دين الله العالم بالسرائر, دين الفطرة والمعنويات والروحانيات, ولأجل إيصال هذه المعنويات والأسس والأطر السليمة لابد من تطبيق المبلغ لها حتى تتهيأ الأرض لغرس بذور الخير والصلاح, ومن ثم اقتطاف الأزهار الجميلة وجني الثمار اليانعة.

كما إن هناك الكثير من الصفات الأخرى للمبلغ في القرآن التي لا يسع المجال لذكرها…

 

وسائل التبليغ في القرآن الكريم

ذكر القرآن الكريم عدة من وسائل التبليغ نشير إلى أهمها:

  1. الكلام.. وإنه لأهم الوسائل في التبليغ, لأنه أهم وسيلة لارتباط البشر فيما بينهم.. ولعل أثره في التغيير أكثر من غيره من الأمور ولذا ورد عن إمام المتقين”ع”: >ربّ كلام أنفذ من سهام<[20] وعن إمامنا الصادق”ع”: >اعلم أن الله عزوجل لم يبعث رسله حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضة، ولكن بعثها بالكلام، وإنما عرف الله جل وعز نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والإعلام<[21] ولذا قال سبحانه{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[22].. وقد أكد الإمام الصادق”ع” في موضع آخر على الكلام فقال: >ليس على الجوارح عبادة أخف مؤنة، وأفضل منزلة، وأعظم قدراً عند الله من الكلام في رضا الله ولوجهه، ونشر آلائه ونعمائه في عباده، ألا ترى أن الله عزوجل لم يجعل فيما بينه وبين رسله معنى يكشف ما أسر إليهم من مكنونات علمه ومخزونات وحيه، غير الكلام وكذلك بين الرسل والأمم، ثبت بهذا أنه أفضل الوسائل وألطف العبادة<[23] ..

 

ولذا على المبلغ أن يراعي هذه المسألة, فيحسن الكلام ويبلغ فيه, ولا يملّ أو يكلّ منه ومن الدعوة, فما كان ذلك ديدن أنبيائنا العظام بل بالعكس نراهم {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[24] حتى حققوا النتائج المرجوة مهما كانت الظروف والصعاب…

  1. الموعظة.. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[25] أجل فإن الموعظة من الوسائل المهمة في التبليغ لأنها حياة القلوب كما جاء عن أمير المؤمنين”ع”[26]..
  2. الخطبة.. وفرقها عن الموعظة بأن في الخطبة طابع فني يثير المشاعر والعواطف نحو المطلوب في حين أن الموعظة تحمل دائماً طابع المنع والردع والتحذير.. نعم, لعل الموعظة تكون جزءاً من الخطبة في بعض الأحيان..
  3. وقد قال تعالى في هذا الخصوص: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[27]

هذه بعض الوسائل المتخذة في التبليغ وهناك وسائل أخرى كالقلم والشعر والحوار وما شابه… لكن المجال لا يسع لذكر أبعاد هذا المفهوم.. ولكن عرضنا نبذة مختصرة عن التبليغ وصفات المبلغ في القرآن الكريم ونترك الكثير من الموضوع.

الأستاذ محمد الباوي – العراق

[1] . سورة الأحزاب: 39.

[2] . سورة الطلاق: 2.

[3] . سورة الأحقاف: 15.

[4] . سورة إبراهيم: 52.

[5] . سورة الأعراف: 93.

[6] .سورة المائدة : 67.

[7] . سورة المجادلة: 11.

[8] . سورة الكهف: 65.

[9] . سورة مريم: 12.

[10] . سورة البقرة: 129.

[11] . سورة الزمر : 3.

[12] . سورة يوسف: 24.

[13] .غرر الحكم, 4173.

[14] . سورة التوبة: 119.

[15] . سورة الصف: 2.

[16] . سورة البقرة: 44.

[17] . الكافي , الكليني, ج2, ص77.

[18] . قرب الأسناد, 77, 251.

[19] . تحف العقول, 301.

[20] . غرر الحكم: 5322.

[21] . الكافي, الکلینی, 8, 148.

[22] . سورة النساء: 164.

[23]. بحار الأنوار: 71, 285.

[24] . سورة نوح: 5.

[25] . سورة يونس: 57.

[26] . انظر: غرر الحكم, 321.

[27] . سورة ص: 20.

شاهد أيضاً

5228-460x330

البوارق العرفانية 6

البارقة السادسة هل نستطيع أن نميت أنفسنا؟ نعم وألف نعم, ولأهل المعرفة تقسيمات لطيفة في …